كتاب: في ظلال القرآن (نسخة منقحة)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: في ظلال القرآن (نسخة منقحة)



{وكذلك أخذ ربك إذا أخذ القرى وهي ظالمة}...
كذلك الذي قصصناه عليك، وبمثل هذا الدمار والنكال يأخذ ربك القرى حين يأخذها وهي ظالمة.. ظالمة: مشركة حين تدين لغير الله بالربوبية، وظالمة لنفسها بالشرك والفساد في الأرض والإعراض عن دعوة التوحيد والصلاح. وقد ساد فيها الظلم وسيطر الظالمون.
{إن أخذه أليم شديد}..
بعد الإمهال والمتاع والابتلاء، وبعد الإعذار بالرسل والبينات، وبعد أن يسود الظلم في الأمة ويسيطر الظالمون. ويتبين أن دعاة المصلحين قلة منعزلة لا تأثير لها في حياة الجماعة الظالمة السادرة في الظلال.. ثم.. بعد أن تفاصل العصبة المؤمنة قومها السادرين في الظلال؛ وتعتبر نفسها أمة وحدها لها دينها ولها ربها ولها قيادتها المؤمنة ولها ولاؤها الخاص فيما بينها. وتعلن الأمة المشركة من قومها بهذا كله، وتدعها تلاقي مصيرها الذي يقدره الله لها. وفق سنته التي لا تتخلف على مدار الزمان.
ذلك الأخذ الأليم الشديد في الدنيا علامة على عذاب الآخرة، يراها من يخافون عذاب الآخرة، أي الذين تفتحت بصائرهم ليدركوا أن الذي يأخذ القرى بظلمها في هذه الحياة سيأخذها بذنوبها في الآخرة، فيخافوا هذا العذاب.. وهنا يعبر السياق بالقلب البشري من مشاهد الأرض إلى مشاهد القيامة على طريقة القرآن في وصل الرحلتين بلا فاصل في السياق:
{إن في ذلك لآية لمن خاف عذاب الآخرة ذلك يوم مجموع له الناس وذلك يوم مشهود وما نؤخره إلا لأجل معدود يوم يأت لا تكلم نفس إلا بإذنه فمنهم شقي وسعيد فأما الذين شقوا ففي النار لهم فيها زفير وشهيق خالدين فيها ما دامت السماوات والأرض إلا ما شاء ربك إن ربك فعال لما يريد وأما الذين سعدوا ففي الجنة خالدين فيها ما دامت السماوات والأرض إلا ما شاء ربك عطاء غير مجذوذ}.
{أن في ذلك لآية لمن خاف عذاب الآخرة}..
ففي ذلك الأخذ الأليم الشديد مشابه من عذاب الآخرة، تذكر بهذا اليوم وتخيف..
وإن كان لا يراها إلا الذين يخافون الآخرة فتتفتح بصائرهم بهذه التقوى التي تجلو البصائر والقلوب..
والذين لا يخافون الآخرة تظل قلوبهم صماء لا تتفتح للآيات، ولا تحس بحكمة الخلق والإعادة، ولا ترى إلا واقعها القريب في هذه الدنيا، وحتى العبر التي تمر في هذه الحياة لا تثير فيها عظة ولا فهماً.
ثم يأخذ في وصف ذلك اليوم..
{ذلك يوم مجموع له الناس وذلك يوم مشهود}..
وهنا يرتسم مشهد التجميع يشمل الخلق جميعاً، على غير إرادة منهم، إنما هو سوق الجميع سوقاً إلى ذلك المعرض المشهود، والكل يحضر والكل ينتظر ما سوف يكون..
{يوم يأت لا تَكلم نفس إلا بإذنه}..
فالصمت الهائل يغشى الجميع، والرهبة الشاملة تخيم على المشهد ومن فيه. والكلام بإذن لا يجرؤ أحد على طلبه، ولكن يؤذن لمن شاء الله فيخرج من صمته بإذنه.. ثم تبدأ عملية الفرز والتوزيع:
{فمنهم شقي وسعيد}..
ومن خلال التعبير نشهد: {الذين شقوا} نشهدهم في النار مكروبي الأنفاس {لهم فيها زفير وشهيق} من الحر والكتمة والضيق. ونشهد {الذين سعدوا} نشهدهم في الجنة لهم فيها عطاء دائم غير مقطوع ولا ممنوع.
هؤلاء وأولئك خالدون حيث هم {ما دامت السماوات والأرض}. وهو تعبير يلقي في الذهن صفة الدوام والاستمرار. وللتعبيرات ظلال. وظل هذا التعبير هنا هو المقصود.
وقد علق السياق هذا الاستمرار بمشيئة الله في كلتا الحالتين. وكل قرار وكل سنة معلقة بمشيئة الله في النهاية. فمشيئة الله هي التي اقتضت السنة وليست مقيدة بها ولا محصورة فيها. إنما هي طليقة تبدل هذه السنة حين يشاء الله:
{إن ربك فعال لما يريد}..
وزاد السياق في حالة الذين سعدوا ما يطمئنهم إلى أن مشيئة الله اقتضت أن يكون عطاؤه لهم غير مقطوع، حتى على فرض تبديل إقامتهم في الجنة. وهو مطلق فرض يذكر لتقرير حرية المشيئة بعدما يوهم التقييد.
بعد هذا الاستطراد إلى المصير في الآخرة، بمناسبة عرض مصائر الأقوام في الدنيا، والمشابه بين عذاب الدنيا وعذاب الآخرة، وتصوير ما ينتظر المكذبين هنا أو هناك، أو هنا ثم هناك.. يعود السياق بما يستفاد من القصص ومن المشاهد إلى الرسول صلى الله عليه وسلم والقلة المؤمنة معه في مكة تسرية وتثبيتاً؛ وإلى المكذبين من قومه بياناً وتحذيراً. فليس هناك شك في أن القوم يعبدون ما كان آباؤهم يعبدون- شأنهم شأن أصحاب ذلك القصص وأصحاب تلك المصائر ونصيبهم الذي يستحقونه سيوفونه. فإن كان قد أخر عنهم فقد أخر عذاب الاستئصال عن قوم موسى بعد اختلافهم في دينهم لأمر قد شاءه الله في إنظارهم.
ولكن قوم موسى وقوم محمد على السواء سيوفون ما يستحقون، بعد الأجل، وفي الموعد المحدود. ولم يؤخر عنهم العذاب لأنهم على الحق. فهم على الباطل الذي كان عليه آباؤهم بكل تأكيد:
{فلا تك في مرية مما يعبد هؤلاء ما يعبدون إلا كما يعبد آباؤهم من قبل وإنا لموفوهم نصيبهم غير منقوص ولقد آتينا موسى الكتاب فاختلف فيه ولولا كلمة سبقت من ربك لقضي بينهم وإنهم لفي شك منه مريب وإن كلا لما ليوفينهم ربك أعمالهم إنه بما يعملون خبير}..
لا يتسرب إلى نفسك شك في فساد عبادة هؤلاء. والخطاب للرسول صلى الله عليه وسلم والتحذير لقومه. وهذا الأسلوب أفعل في النفس أحياناً، لأنه يوحي بأنها قضية موضوعية يبينها الله لرسوله، وليست جدالاً مع أحد، ولا خطاباً للمتلبسين بها، إهمالاً لهم وقلة انشغال بهم! وعندئذٍ يكون لتلك الحقيقة الخالصة المجردة أثرها في اهتمامهم أكثر مما لو خوطبوا بها خطاباً مباشراً..
{فلا تك في مرية مما يعبد هؤلاء ما يعبدون إلا كما يعبد آباؤهم من قبل}..
ومصيرهم إذن كمصيرهم.. العذاب.. ولكنه يلفه كذلك في التعبير تمشياً مع الأسلوب:
{وإنا لموفوهم نصيبهم غير منقوص}..
ومعروف نصيبهم هذا من نصيب القوم قبلهم. وقد رأينا منه نماذج ومشاهد!
وقد لا يصيبهم عذاب الاستئصال في الدنيا كما لم يصب قوم موسى:
{ولقد آتينا موسى الكتاب فاختلف فيه}..
وتفرقت كلمتهم واعتقاداتهم وعباداتهم، ولكن كلمة سبقت من الله أن يكون حسابهم الكامل يوم القيامة:
{ولولا كلمة سبقت من ربك لقضي بينهم}..
ولحكمة ما سبقت هذه الكلمة، ولم يحل عذاب الاستئصال بهم، لأن لهم كتاباً، والذين لهم كتاب من اتباع الرسل كلهم مؤجلون إلى يوم القيامة، لأن الكتاب دليل هداية باق، تستطيع الأجيال أن تتدبره كالجيل الذي أنزل فيه. والأمر ليس كذلك في الخوارق المادية التي لا يشهدها إلا جيل، فإما أن يؤمن بها وإما أن لا يؤمن فيأخذه العذاب.. والتوراة والإنجيل كتابان متكاملان يظلان معروضين للأجيال حتى يجيء الكتاب الأخير، مصدقاً لما بين يديه من التوراة والإنجيل فيصبح هو الكتاب الأخير للناس جميعاً يدعى إليه الناس جميعاً، ويحاسب على أساسه الناس جميعاً، بما فيهم أهل التوراة وأهل الإنجيل. {وإنهم}.. أي قوم موسى.. {لفي شك منه مريب}.. من كتاب موسى، لأنه لم يكتب إلا بعد أجيال، وتفرقت فيه الروايات واضطربت، فلا يقين فيه لمتبعيه.
وإذا كان العذاب قد أجل.. فإن الكل سيوفون أعمالهم خيرها وشرها. سيوفيهم بها العليم الخبير بها ولن تضيع:
{وإن كلاً لما ليوفينهم ربك أعمالهم إنه بما يعملون خبير} وفي التعبير توكيدات منوعة حتى لا يشك أحد في الجزاء والوفاء من جراء الإنظار والتأجيل.
وحتى لا يشك أحد في أن ما عليه القوم هو الباطل الذي لا شك في بطلانه، وأنه الشرك الذي زاوله من قبل كل المشركين..
ولقد كان لهذه التوكيدات ما يقتضيها من واقع الحركة في تلك الفترة. فقد وقف المشركون وقفتهم العنيدة منها ومن رسول الله صلى الله عليه وسلم والقلة المؤمنة معه، وتجمدت الدعوة على وجه التقريب. بينما عذاب الله الموعود مؤجل لم يقع بعد. والأذى ينزل بالعصبة المؤمنة ويمضي أعداؤها ناجين!... إنها فترة تهتز فيها بعض القلوب. وحتى القلوب الثابتة تنالها الوحشة، وتحتاج إلى مثل هذه التسرية وإلى مثل هذا التثبيت.
وتثبيت القلوب المؤمنة لا يكون بشيء كما يكون بتوكيد أن أعداءها هم أعداء الله، وأنهم على الباطل الذي لا شك فيه! كذلك لا يكون تثبيت القلوب المؤمنة بشيء كما يكون بجلاء حكمة الله في إمهال الظالمين، وإرجاء الطغاة إلى يوم معلوم، ينالون فيه جزاءهم ولا يفلتون!
وهكذا نلمح مقتضيات الحركة بهذه العقيدة في النصوص القرآنية، ونرى كيف يخوض القرآن المعركة بالجماعة المسلمة، وكيف يكشف لها معالم الطريق!
ذلك البيان مع هذا التوكيد يلقي في النفس أن سنة الله ماضية على استقامتها في خلقه وفي دينه وفي وعده وفي وعيده. وإذن فليستقم المؤمنون بدين الله والداعون له على طريقتهم كما أمروا لا يغلون في الدين ولا يزيدون فيه، ولا يركنون إلى الظالمين مهما تكن قوتهم، ولا يدينون لغير الله مهما طال عليهم الطريق. ثم يتزودون بزاد الطريق، ويصبرون حتى تتحقق سنة الله عندما يريد.
{فاستقم كما أمرت ومن تاب معك ولا تطغوا إنه بما تعملون بصير ولا تركنوا إلى الذين ظلموا فتمسكم النار وما لكم من دون الله من أولياء ثم لا تنصرون وأقم الصلاة طرفي النهار وزلفاً من الليل إن الحسنات يذهبن السيئات ذلك ذكرى للذاكرين واصبر فإن الله لا يضيع أجر المحسنين}..
هذا الأمر للرسول صلى الله عليه وسلم ومن تاب معه:
{فاستقم كما أمرت}.. أحس عليه الصلاة والسلام برهبته وقوته حتى روي عنه أنه قال مشيراً إليه: شيبتني هود... فالاستقامة: الاعتدال والمضي على النهج دون انحراف. وهو في حاجة إلى اليقظة الدائمة، والتدبر الدائم، والتحري الدائم لحدود الطريق، وضبط الطريق، وضبط الانفعالات البشرية التي تميل الاتجاه قليلاً أو كثيراً.. ومن ثم فهي شغل دائم في كل حركة من حركات الحياة.
وإنه لمما يستحق الانتباه هنا أن النهي الذي أعقب الأمر بالاستقامة، لم يكن نهياً عن القصور والتقصير، إنما كان نهياً عن الطغيان والمجاوزة.. وذلك أن الأمر بالاستقامة وما يتبعه في الضمير من يقظة وتحرج قد ينتهي إلى الغلو والمبالغة التي تحول هذا الدين من يسر إلى عسر.
والله يريد دينه كما أنزله، ويريد الاستقامة على ما أمر دون إفراط ولا غلو، فالإفراط والغلو يخرجان هذا الدين عن طبيعته كالتفريط والتقصير. وهي التفاتة ذات قيمة كبيرة، لإمساك النفوس على الصراط، بلا انحراف إلى الغلو أو الإهمال على السواء..
{إنه بما تعملون بصير}..
والبصر من البصيرة مناسب في هذا الموضع، الذي تتحكم فيه البصيرة وحسن الإدراك والتقدير..
فاستقم أيها الرسول كما أمرت. ومن تاب معك...
{ولا تركنوا إلى الذين ظلموا فتمسكم النار}
لا تستندوا ولا تطمئنوا إلى الذين ظلموا. إلى الجبارين الطغاة الظالمين، أصحاب القوة في الأرض، الذين يقهرون العباد بقوتهم ويعبّدونهم لغير الله من العبيد.. لا تركنوا إليهم فإن ركونكم إليهم يعني إقرارهم على هذا المنكر الأكبر الذي يزاولونه، ومشاركتهم إثم ذلك المنكر الكبير.
{فتمسكم النار}..
جزاء هذا الانحراف.
{وما لكم من دون الله من أولياء ثم لا تنصرون}..
والاستقامة على الطريق في مثل هذه الفترة أمر شاق عسير يحتاج إلى زاد يعين..
والله سبحانه يرشد رسوله صلى الله عليه وسلم ومن معه من القلة المؤمنة إلى زاد الطريق:
{وأقم الصلاة طرفي النهار وزلفاً من الليل}..
ولقد علم الله أن هذا هو الزاد الذي يبقى حين يفنى كل زاد، والذي يقيم البنية الروحية، ويمسك القلوب على الحق الشاق التكاليف. ذلك أنه يصل هذه القلوب بربها الرحيم الودود، القريب المجيب، وينسم عليها نسمة الأنس في وحشتها وعزلتها في تلك الجاهلية النكدة الكنود!
والآية هنا تذكر طرفي النهار وهما أوله وآخرة، وزلفاً من الليل أي قريباً من الليل. وهذه تشمل أوقات الصلاة المفروضة دون تحديد عددها. والعدد محدد بالسنة ومواقيته كذلك.
والنص يعقب على الأمر بإقامة الصلاة أي أدائها كاملة مستوفاه بأن الحسنات يذهبن السيئات. وهو نص عام يشمل كل حسنة، والصلاة من أعظم الحسنات، فهي داخلة فيه بالأولوية. لا أن الصلاة هي الحسنة التي تذهب السيئة بهذا التحديد كما ذهب بعض المفسرين {ذلك ذكرى للذاكرين}..
فالصلاة ذكر في أساسها ومن ثم ناسبها هذا التعقيب..
والاستقامة في حاجة إلى الصبر. كما أن انتظار الأجل لتحقيق سنة الله في المكذبين يحتاج إلى الصبر.. ومن ثم كان التعقيب على الأمر بالاستقامة وعلى ما سبقه في السياق هو:
{واصبر فإن الله لا يضيع أجر المحسنين}..
والاستقامة إحسان. وإقامة الصلاة في أوقاتها إحسان. والصبر على كيد التكذيب إحسان... والله لا يضيع أجر المحسنين...
ثم يعود السياق إلى تكملة التعليق والتعقيب على مصارع القرى والقرون. فيشير من طرف خفي إلى أنه لو كان في هذه القرون أولو بقية يستبقون لأنفسهم الخير عند الله، فينهون عن الفساد في الأرض، ويصدون الظالمين عن الظلم، ما أخذ تلك القرى بعذاب الاستئصال الذي حل بهم، فإن الله لا يأخذ القرى بالظلم إذا كان أهلها مصلحين، أي إذا كان للمصلحين من أهلها قدرة يصدون بها الظلم والفساد، إنما كان في هذه القرى قلة من المؤمنين لا نفوذ لهم ولا قوة، فأنجاهم الله.